فصل: قال النسفي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله تعالى: {وربكم يخلق ما يشاء ويختار} نزلت هذه الآية جوابًا للمشركين حين قالوا {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} يعني الوليد بن المغيرة أو عروة بن مسعود الثقفي أخبر الله تعالى أنه لا يبعث الرسل باختيارهم لأنه المالك المطلق وله أن يخص ما يشاء بما يشاء لا اعتراض البتة {ما كان لهم الخيرة} أي ليس لهم الاختيار، أو ليس لهم أن يختاروا على الله.
وقيل معناه ويختار الله ما كان هو الأصلح والخير لهم فيه، ثم نزه الله تعالى نفسه فقال: {سبحان الله وتعالى عما يشركون وربك يعلم ما تكن} أي تخفي {صدورهم وما يعلنون} أي يظهرون {وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة} أي يحمده أولياؤه في الدنيا ويحمدونه في الآخرة في الجنة {وله الحكم} أي فصل القضاء بين الخلق وقال ابن عباس يحكم لأهل طاعته بالمغفرة ولأهل المعصية بالشقاوة {وإليه ترجعون} قوله: {قل} أي قل يا محمد لأهل مكة {أرأيتم} يعني أخبروني {إن جعل الله عليكم الليل سرمدًا} أي دائمًا {إلى يوم القيامة} لا نهار فيه {من إله غير الله يأتيكم بضياء} أي بنهار تطلبون فيه المعيشة {أفلا تسمعون} أي سماع فهم وقبول {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدًا إلى يوم القيامة} أي لا ليل فيه {من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون} أي ما أنتم عليه من الخطأ قيل إن من نعمة الله تعالى على الخالق أن جعل الله والنهار يتعاقبان لأن المرء في حال الدنيا وفي حال التكليف مدفوع إلى التعب ليحصل ما يحتاج إليه ولا يتم له ذلك لولا ضوء النهار ولأجله يحصل الاجتماع فتمكن المعاملات ومعلوم أن ذلك لا يتم إلا بالراحة والسكون بالليل فلابد منهما فأما من الجنة فلا تعب ولا نصب فلا حاجة بهم إلى الليل ولذلك يدوم لهم الضياء أبدًا فبين الله تعالى أنه القادر على ذلك ليس غيره فقال: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار} أي يتعاقبان بالظلمة والضياء {لتسكنوا فيه} أي في الليل {ولتبتغوا من فضله} أي بالنهار {ولعلكم تشكرون} أي نعم الله فيهما {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} كرر ذلك النداء للمشركين لزيادة التقريع والتوبيخ {ونزعنا} يعني أخرجنا وقيل ميزنا {من كل أمة شهيدًا} يعني رسولهم يشهد عليهم بأنه بلغهم رسالة ربهم ونصح لهم {فقلنا} يعني للأمم المكذبة لرسلهم {هاتوا برهانكم} أي حجتكم بأن معي شريكًا {فعلموا أن الحق لله} أي التوحيد لله {وضل عنهم ما كانوا يفترون} أي يختلقون في الدنيا من الكذب على الله. اهـ.

.قال النسفي:

{ولقد وصّلنا لهم القول لعلّهم يتذكّرون}.
التوصيل وتكريره يعني أن القرآن أتاهم متتابعًا متواصلًا وعدًا ووعيدًا وقصصًا وعبرًا ومواعظ ليتذكروا فيفلحوا {الذين ءاتيناهم الكتاب مِن قَبْلِهِ} من قبل القرآن وخبر {الذين} {هُم بِهِ} بالقرآن {يُؤْمِنُونَ} نزلت في مؤمني أهل الكتاب {وَإِذَا يتلى} القرآن {عَلَيْهِمْ قَالُواْ ءامَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبّنَا إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ} من قبل نزول القرآن {مُسْلِمِينَ} كائنين على دين الإسلام، مؤمنين بمحمد عليه السلام، وقوله: {إنه} تعليل للإيمان به لأن كونه حقًا من الله حقيق بأن يؤمن به، وقوله: {إنا} بيان لقوله: {آمنا} لأنه يحتمل أن يكون إيمانًا قريب العهد وبعيده فأخبروا بأن إيمانهم به متقادم {أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ} بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن، أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وبعد نزوله، أو بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب {وَيَدْرَءونَ بالحسنة السيئة} يدفعون بالطاعة المعصية أو بالحلم الأذى {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} يزكون {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو} الباطل أو الشتم من المشركين {أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ} للاغين {لَنَا أعمالنا وَلَكُمْ أعمالكم سلام عَلَيْكُمْ} أمان منا لكم بأن نقابل لغوكم بمثله {لاَ نَبْتَغِى الجاهلين} لا نريد مخالطتهم وصحبتهم.
{إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ} لا تقدر أن تدخل في الإسلام كل من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم {ولكن الله يَهْدِى مَن يَشَاء} يخلق فعل الاهتداء فيمن يشاء {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} بمن يختار الهداية ويقبلها ويتعظ بالدلائل والآيات.
قال الزجاج: أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب، وذلك أنه قال عند موته: يا معشر بني هاشم صدقوا محمدًا تفلحوا.
فقال عليه السلام: «يا عم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك» قال: فما تريد ابن أخي؟ قال: «أريد منك أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله» قال: يا ابن أخي أنا قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جزع عند الموت.
وإن كانت الصيغة عامة، والآية حجة على المعتزلة لأنهم يقولون الهدى هو البيان وقد هدى الناس أجمع ولكنهم لم يهتدوا بسوء اختيارهم فدل أن وراء البيان ما يسمى هداية وهو خلق الاهتداء وإعطاء التوفيق والقدرة.
{وَقَالُواْ إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكّن لَّهُمْ حَرَمًا ءامِنًا} قالت قريش: نحن نعلم أنك على الحق ولكنا نخاف إن اتبعناك وخالفنا العرب بذلك أن يتخطفونا من أرضنا، فألقمهم الله الحجر بأنه مكن لهم في الحرم الذي أمنه بحرمة البيت وأمن قطانه بحرمته، والثمرات تجبى إليه من كل أوب وهم كفرة، فأنّى يستقيم أن يعرضهم للتخطف ويسلبهم الأمن إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة الإسلام؟ وإسناد الأمن إلى أهل الحرم حقيقة وإلى الحرم مجاز {يجبى إِلَيْهِ} وبالتاء: مدني ويعقوب وسهل أي تجلب وتجمع {ثَمَرَاتُ كُلّ شيء} معنى الكلية الكثرة كقوله: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شيء} [النمل: 23] {رّزْقًا مّن لَّدُنَّا} هو مصدر لأن معنى {يجبى إليه} يرزق أو مفعول له أو حال من الثمرات إن كان بمعنى مرزوق لتخصصها بالإضافة كما تنصب عن النكرة المتخصصة بالصفة {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} متعلق ب {من لدنا} أي قليل منهم يقرون بأن ذلك رزق من عند الله وأكثرهم جهلة لا يعلمون ذلك، ولو علموا أنه من عند الله لعلموا أن الخوف والأمن من عنده ولما خافوا التخطف إذا آمنوا به.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم بإنعام الله عليهم فلم يشكروا النعمة وقابلوها بالبطر فأهلكوا.
و{كم} نصب ب {أهلكنا} و{معيشتها} بحذف الجار وإيصال الفعل أي في معيشتها، والبطر سوء احتمال الغني وهو أن لا يحفظ حق الله فيه {فَتِلْكَ مساكنهم} منازلهم باقية الآثار يشاهدونها في الأسفار كبلاد ثمود وقوم شعيب وغيرهم {لَمْ تُسْكَن} حال والعامل فيها الإشارة {مّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلًا} من السكنى أي لم يسكنها إلا المسافر ومار الطريق يومًا أو ساعة {وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين} لتلك المساكن من ساكنيها أي لا يملك التصرف فيها غيرنا.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى} في كل وقت {حتى يَبْعَثَ في أُمّهَا} وبكسر الهمزة: حمزة وعلي أي في القرية التي هي أمها أي أصلها ومعظمها {رَسُولًا} لإلزام الحجة وقطع المعذرة أو وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أم القرى يعني مكة لأن الأرض دحيت من تحتها رسولًا، يعني محمدًا عليه السلام {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءاياتنا} أي القرآن {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِى القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظالمون} أي وما أهلكناهم للانتقام إلا وأهلها مستحقون العذاب بظلمهم وهو إصرارهم على كفرهم وعنادهم ومكابرتهم بعد الاعذار إليهم {وَمَا أُوتِيتُم مّن شيء فمتاع الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا} وأي شيء أصبتموه من أسباب الدنيا فما هو إلا تمتع وزينة أيامًا قلائل وهي مدة الحياة الفانية {وَمَا عِندَ الله} وهو ثوابه {خَيْرٌ} في نفسه من ذلك {وأبقى} لأنه دائم {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أن الباقي خير من الفاني.
وخيّر أبو عمرو بين الياء والتاء والباقون بالتاء لا غير.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما.
إن الله تعالى خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف: المؤمن والمنافق والكافر.
فالمؤمن يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع.
ثم قرر هذه الآية بقوله: {أَفَمَن وعدناه وَعْدًا حَسَنًا} أي الجنة فلا شيء أحسن منها لأنها دائمة ولذا سميت الجنة بالحسنى {فَهُوَ لاَقِيهِ} أي رائيه ومدركه ومصيبه {كَمَن مَّتَّعْنَاهُ متاع الحياة الدنيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين} من الذين أحضروا النار ونحوه فكذبوه فإنهم لمحضرون.
نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي جهل لعنه الله، أو في علي وحمزة وأبي جهل، أو في المؤمن والكافر، ومعنى الفاء الأولى أنه لما ذكر التفاوت بين متاع الحياة الدنيا وما عند الله عقبه بقوله: {أفمن وعدناه} أي أبعد هذا التفاوت الجلي يسوي بين أبناء الدنيا وأبناء الآخرة، والفاء الثانية للتسبيب لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد.
و{ثم} لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع ثم هو عليّ كما قيل عضدّ في عضد شبه المنفصل بالمتصل.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} ينادي الله الكفار نداء توبيخ وهو عطف على {يَوْمُ القيامة} أو منصوب ب ذكر {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِىَ} بناء على زعمهم {الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} ومفعولا {تزعمون} محذوفان تقديره: كنتم تزعمونهم شركائي، ويجوز حذف المفعولين في باب ظننت ولا يجوز الاقتصار على أحدهما {قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} أي الشياطين أو أئمة الكفر.
ومعنى حق عليهم القول وجب عليه مقتضاه وثبت وهو قوله: {لأمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] {رَبَّنَا هَؤُلاء} مبتدأ {الذين أَغْوَيْنَا} أي دعوناهم إلى الشرك وسولنا لهم الغي صفة والراجع إلى الموصول محذوف والخبر {أغويناهم} والكاف في {كَمَا غَوَيْنَا} صفة مصدر محذوف تقديره أغويناهم فغووا غيًا مثل ما غوينا يعنون أنا لم نغو إلا باختيارنا فهؤلاء كذلك غووا باختيارهم لأن إغواءنا لهم لم يكن إلا وسوسة وتسويلًا فلا فرق إذًا بين غينا وغيهم، وإن كان تسويلنا داعيًا لهم إلى الكفر فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان بما وضع فيهم من أدلة العقل وما بعث إليهم من الرسل وأنزل عليهم من الكتب وهو كقوله: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِىَ الامر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} إلى قوله: {وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} منهم ومما اختاروه من الكفر {مَا كَانُواْ إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} بل يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم، وإخلاء الجملتين من العاطف لكونهما مقررتين لمعنى الجملة الأولى.
{وَقِيلَ} للمشركين {ادعوا شُرَكَاءكُمْ} أي الأصنام لتخلصكم من العذاب {فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} فلم يجيبوهم {وَرَأَوُاْ العذاب لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ} وجواب {لو} محذوف أي لما رأوا العذاب {وَيَوْمَ يناديهم فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ المرسلين} الذين أرسلوا إليكم.
حكى أولًا ما يوبخهم به من اتخاذهم له شركاء ثم ما يقوله الشياطين أو أئمة الكفر عند توبيخهم، لأنهم إذا وبخوا بعبادة الآلهة اعتذروا بأن الشياطين هم الذين استغووهم، ثم ما يشبه الشماتة بهم لاستغاثتهم آلهتهم وعجزهم عن نصرتهم، ثم ما يبكون به من الاحتجاح عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنباء يَوْمَئِذٍ} خفيت عليهم الحجج أو الأخبار.
وقيل: خفي عليهم الجواب فلم يدروا بماذا يجيبون إذ لم يكن عندهم جواب {فَهُمْ لاَ يَتَسَاءلُونَ} لا يسأل بعضهم بعضًا عن العذر والحجة رجاء أن يكون عنده عذر وحجة لأنهم يتساوون في العجز عن الجواب {فَأَمَّا مَن تَابَ} من الشرك {وءامن} بربه وبما جاء من عنده {وَعَمِلَ صالحا فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين} أي فعسى أن يفلح عند الله.
وعسى من الكرام تحقيق، وفيه بشارة للمسلمين على الإسلام وترغيب للكافرين على الإيمان.
ونزل جوابًا لقول الوليد بن المغيرة: {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] يعني نفسه أو أبا مسعود.
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء} وفيه دلالة خلق الأفعال، ويوقف على {وَيَخْتَارُ} أي وربك يخلق ما يشاء وربك يختار ما يشاء {مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة} أي ليس لهم أن يختاروا على الله شيئًا ما وله الخيرة عليهم.
ولم يدخل العاطف في {ما كان لهم الخيرة} لأنه بيان لقوله: {ويختار} إذ المعنى أن الخيرة لله وهو أعلم بوجوه الحكمة في أفعاله فليس لأحد من خلقه أن يختار عليه.
ومن وصل على معنى ويختار الذي لهم فيه الخيرة فقد أبعد بل {ما} لنفي اختيار الخلق تقريرًا لاختيار الحق، ومن قال: ومعناه ويختار للعباد ما هو خير لهم وأصلح فهو مائل إلى الاعتزال.